هُناك دائرة ثابتة يعمل الفيلسوف – في أي عصر كان – على البحث الدءوب داخلها؛ في محاولة جادة مِنْه للاقتراب من الحقيقة، أو السعي نحوها، فهو لن يبلغها مهما كانت، ولكنّه سيقف على حافتها.
وهذه الدائرة ليست مُفرغة، وكذلك ليست دائرة واحدة وإنّما عدد لا نهائي من الدوائر مُلتحمة ببعضه البعض، فكما يقول الفيلسوف الألماني إرنست بلوخ أنّ أمور الحياة لم تصل إلى شكلها النهائي الذي من الممكن الإشارة إليه والتنويه عنه، وأنّه هُناك استحالة للوصول إلى الكمال.
لذا فالكونُ فِي حَالةِ من الديمومة وتوالد الأجيال وتعاقبها وراء بعضها، لذا بخلاف طرح الأسئلة وتركها دون إجابات مُعلقة بين السماء والأرض، فلابد لنا من تعميق السؤال، ومحاولة استنباط مفاهيم أخرى جديدة – لابد ستنبع من محاولة التعميق تلك، ومن بين القيم التي يعمل الفيلسوف داخلها على إعمال عقله، مبدأ “الجمال”.
ما هو الجمال؟ ماهيته؟ كيف يكون؟ هل الشيء جميل في ذاته، وأنّ الجمال هو مُكون من مكوناته الرئيسية؟ أم نحن من نجعل الشيء جميلاً عن طريق إصباغ ما بداخل النفس عليه وعلى مظهره الخارجي؟، أم كما قال الفيلسوف الهولندي سبينوزا عن الجمال” إنّنا لا نرغب في الشيء لأنّه حسن، بل نسميه حسنًا لأنّنا نرغب فيه”، لذا فبجانب اختلاف المنظور ناحية الجمال من شخص لآخر، هُنالك اختلاف في أنواعه.
ولكن الشيء الأساسي أنّ مُفردات الجمال في الكون مُتنوعة تنوعًا ثريًا. فهُنالك من يرى الجمال في اللحظة التي تهدأ فيها الشمس، وتنزل في هدوء نحو المغيب هُنا – الشروق هُناك في مكان آخر-، هناك من يرى الجمال في قطرات الندى على زهرة ياسمين عند الصباح.
من يرى الجمال في اللوحة الفنية وما فيها من تداخلات الألوان واختلافات الرؤى لدى الفنان، مَنْ يرى الجمال في اصطفاف الأسنان داخل الفم والتي ينتج عنها ابتسامة لامعة، وهنالك من يرى الجمال في انحناءات الخطوط المكتوبة، وجمال تكوين حرف الألف، أو انسيبابية حرف الياء، ومن بين الخطوط الفارسية التي تلقى حظوة كبيرة “خط النستعليق”.
لكل خط من الخطوط الفارسية شِهادة ميلاد خاصة به، فخط النستعليق مثلا ظهر في القرن الثامن والتاسع الهجري على يد مير على التبريزي، وطبقًا لقانون النسب والحسب، فخط النستعليق له أب وأم، وهو سليل عائلة كبيرة حيث أنّه أصلاً تولد نتيجة المزيج ما بين خطي النسخ والتعليق، ومن هنا نشأ مٌسماه هذا.
وككل خط، ككل نشاط إبداعي يأتي التابعون، ليجددوا ما تركه السابقون، حيث أن خط النستعليق شهد تطورات عديدة على يد مير عماد حسني قزورني، وعلى يد أيضًا ميرز اغلام رضا أصفهاني والذي كان له دور بارز في إدخال هذا الخط داخل آلات الطباعة.
الابداع ذاته في أي مجال يضيقُ بالمحدودية، ويُرحب بالفضاء، بالحُرية التامة التي يحظى بها، وهذا مع حدث مع خط النستعليق، حيث أنّه لم يعد حبيس شوارع وحواري بلاد فارس فقط، بل امتد ليتغلغلَ داخل الأراضي التُركية والأفغانستانية، ثم لاقي انتشارًا على نطاق أوسع في بلاد جنوب آسيا، كالهند وبنجلاديش، واستعمل أيضًا في الكتابة العربية، وبخاصة كِتابة العناوين.
لخط النستعليق خصائص عِدة، إذ أن له قواعد مُرتبط بالأصول الهندسية، وأيضًا تكون الكلمات فيه أكثر ارتفاعًا من الجهة اليُمنى ثم تنحدر إلى اليسرى، إذا لاحظت ودققت النظر – عزيزي القاريء- في أي مخطوطة مكتوبة بهذا الخط، فستُلاحظ كم الانسياب والأناقة واللمسات الرقيقة والنزعات الصوفية التي تتكلم بها تدخلات الحروف مع بعضها، فالخط يمتاز بأنّ فيه رسم أكثر من كِتابة، وبالتالي لعبارته روح اللوحات الفنية، وبالتالي ممكن أن يتولدَ داخلك إحساس كنفس الإحساس المتولد عند الانغماس في تفاصيل لوحة الجوكيندا، أو لوحة من لوحات السوريالي سلفادور دالي.
أما استخدامات الخط فلقد كانت مُتنوعة، حيث أن استخدمه الخطاطون الإيرانيون في كتابة النصوص الأدبية، في كِتابة العناوين، في كِتابة دواوين الشعر، ويُقال أنّ هُنالك ثلاث نسخ من القرآن قد كُتبت بهذا الخط، للدرجةِ التي يُطلق عليها البعض، على هذا الخط اسم”عروس الخطوط الاسلامية”، أو كما قال عنه المستشرق والعالم بالفنون الإيرانية “آرثر بوب” أنّ خط النسخ هو خط كامل مليء بالتوازن، وخط التعليق خط به جاذبية ومؤثر، وبعد دمج الخطين، وتركيب خصائص هذا على ذاك ينتج خط النستعليق جميلاً رقيقًا مُنسابًا، يُوضح صورة لحضارة إيران وثقافتهم.
وإليك – عزيزي القاريء المُتذوق، باقة من هذه اللوحات الخَطية: