في التاسع والعشرين من مايو / أيار الماضي، دوَّن محرر مجلة “ذا أتلانتك”، كريم سدچدبور، على صفحات موقعها، تقريرًا هامًا يتناول الشأن الإيراني، وكان تحت عُنوان “كيف يمكن لترامب إحياء النظام الإيراني”، ولقد كان حرّيٌ بنا أن نُفنِّد فقراته ونتناوله بصُورةٍ أكثر إسهابًا مما قد تناولها التقرير ذاته.
أول استنباطاتنا من التقرير هو مدى أهمية الحالة التي أصبحت تمثِّلها العلاقة القائمة بين الجانبين الإيراني والأميركي في الفترة الحالية، من الناحية الإعلامية، وقد ألقت هذه الحالة بظلالها على الجانب الإعلامي، فقد أصبحت كُبريات وسائل الإعلام حول العالم من وكالات أنباء، وصُحف، ومحطات تليفزيونية، وإذاعات راديو، تُولِّي الشأن الإيراني الأميركي أهميةً خاصة، لا سيما عقب صعود دونالد ترامب إلى سُدة حُكم الولايات المتحدة، وهو الذي طالما أثناء حملته الانتخابية صّب سخطه ولعناته على الاتفاق النووي الذي أبرمته أميركا تحت قيادة باراك أوباما آنذاك برفقة كُبرى دول مجلس الأمن للحدّ من النشاط النووي الإيراني وتحجيمه.
وقد وصفه بأنه أسوأ معاهدات واتفاقيات أميركا في التاريخ الحديث ، وقد قطع وُعودًا وأقسم أيمانًا بأنه سيتخلص منه حال وصوله للسلطة وهو ما حدث فعليًّا في الثامن من مايو / أيار الماضي.
وقد صنع كُلٌ من ترامب وروحاني وخامنئي بالأخص مجالًا خصبًا لهذه الحالة الإعلامية في التنامي والسيادة على كل ما دونها، نظرًا لما أصبحت تُشكِّله نزاعاتهم وصراعاتهم من أزمةٍ سياسيةٍ ملتهبة وشائكة على وشك الانفجار، بالإضافة أيضًّا إلى التقاطُر الدائم وسيل الأخبار الوارد عن الجمهورية الإيرانية وأحداثها وملفاتها الداخلية والتي أصبحت إدارة ترامب منشغلةً به، ومن ثمَّ كانت هُناك رُدود أفعال من قِبل هذه الجمهورية متعددة المجالس والشخصيات النافذة والمسؤولون والقيادات.
وهذا ما يضع بأيادينا على نقطةٍ شديدة الأهمية في ماهيّة المسؤولين عن إطلاق التصريحات داخل إيران، فقد وضعت حالة السيولة تلك إيران في أكثر من مأزق، سواء ما بين قياداتها الداخلية أو التسبُب في معضلاتٍ دبلوماسيةٍ خارجية كبّدت إيران الكثير من الخسائر وكلّفتها ضريبة باهظة.
إذ نجد أن هناك مصادر متعددة للغاية تبوح وتُصرِّح لوسائل الإعلام بالعديد من التصريحات والخطابات والتي تعج بكمٍّ لا حصرَ له من المضامين والرسائل والحمولات ويتم تفسيرها وتأويلها على كل شكلٍ ولون، كما أن الدولة حتى الآن لم تتخذ أية إجراءات للحيلولة دون حدوث ذلك الأمر، أو قصر هذا الأمر على المتحدثين الرسميين بها والذين ينطقون باسم الدولة ككل لا كل مؤسسةٍ على حدى.
مثل هذا الأمر يُوجِد حجمًا من الزخم الذي لا حدود له في الإعلام والذي يُخرِج من النزاع الواحد أو الصراع الواحد العديد من القصص الإخبارية والتحليلات التي لا تتوقف.
افتتحت المجلة التقرير باقتباسٍ لنابليون بونابرت والذي قال فيه :
“عندما يرتكب عدوك خطأً، فلا تقاطعه أبدًا”
كان الاقتباس مُوجَّه إلى ترامب، مقصودٌ به إيران، وقدّم التقرير إجمالًا للحالة الواقعية التي تعيشها إيران من قمعٍ واضطهاد وضرب الحائط بأدنى حُقوق الإنسان تعسف بمعارضيها وتُنكِّل بهم، وتفرض نظامًا دينيًّا صارمًا يلقى كُل من يواجهه أو يعترض عليه سُجون مُشرَّعة تتدلى منها حبال المشانق، وهراوات الباسيچ تبطش بالمعارضين، وإن أفلتوا منها فرصاص قوات الحرس الثوري ستقابلهم.
وتعيش إيران فعليًّا أيامًا آسنات، عملتها تنهار لمعدلاتٍ غير مسبوقة، وفوضى واسعة تعيث في سوقها المالية، وحربٌ طاحنةٌ وتكسير عظام بين الإصلاحيين والمحافظين ولدى كُلٍ منهما الرغبة في توجيه ضربةٍ للآخر تُطنيه عن الحياة السياسية ليحل عوضًا عنه، وغضبٌ يتنامى في أوساط شعبٍ تضرب فيه عوامل البؤس ودركات الشقاء، من جهلٍ ومرضٍ وفقرٍ مُدقَع وحياةٍ اجتماعيةٍ مُتفسِخة.
وهذا في ظل عاملٍ آخر صعد على السطح في تظاهرات يناير / كانون الثاني الماضي عندما وجه المتظاهرون هتافاتهم للطبقة الحاكمة بأن تكُف أياديها عن دول الجوار، والتوقف عن إنفاق الأموال الطائلة على الحركات الشيعية الموالية لإيران في لُبنان والبحرين واليمن وسُورية والعراق، وأن تُنفَق هذه الأموال في مصارفها الصحيحةداخل البلاد، وأن تحوز معضلات البلاد وأزماتها الداخلية اهتمامًا من قِبلهم بنفس الدرجة التي تحوزها دول الجوار في أچندة سياساتها.
لفت هذا التطاحُن والعشوائية البارزة بدرجةٍ جليِّة لغير المُدقِّقين والمُتفحصِين لأحوال وسياسات الدول، الولايات المتحدة الأميركية التي تجافت الدخول مع إيران في معركةٍ عسكريةٍ خارجية، لا شك أن الولايات المتحدة الأميركية ستنتصر فيها لفارق القُوى الشاسع لصالح أميركا على حساب إيران، ولكن إيران نِدٌّ قويّ ومؤذٍ وستُكلِّف أميركا الكثير من الخسائر ولن تقل ضريبة حربها مع إيران عما تكبدته في ڤيتنام والعراق وأفغانستان، مع جانب يمتلك آلةً أو ما نستطيع أن نُسميه “مفرخةً” بشرية، تدفع بعشرات الآلاف من الشباب نحو ساحات القتال متعددة الأطراف.
ولا تكَّل عن ذلك أو تتوقف، حاقنةً إياهم بأيديولوچيةٍ دينيةٍ معنويةً تجعلهم يهرعون صوب هذه الساحات، ويُلبون كل نداءٍ مُقدَّس لحماية العتبات المُقدَّسة ومقابر الأئمة ورفع راية الجهاد على حد زعمهم. وليس أشهد على ذلك من عشرات التوابيت والنُعوش التي تُحمَل على الأكتاف بصورةٍ شبه يومية في شوارع إيران قادمةً من سُورية بالأخص، بعد معاركهم مع تنظيمات السلفية الجهادية.
ومن ثمَّ ولت أميركا وجهتها نحو طُعمٍ ألقته إيران غير متعمدة لأعدائها، ألا وهو هذا الغضب الشعبي المقموع، والنظام السُلطويّ الحاكم، والذي يُريد الإيرانيون على حد قولهم التخلُص منه، وبالتالي وجّهت أميركا اهتماماتها نحو تفجير إيران من الداخل، وكسر أنفها، وزعزعة استقرارها آملةً في تنكيس المعبد على رأس نظام الثورة الإسلامية، ومُنهِيةً حياته السياسية الحاكمة، والتي هي مستمرةٌ منذ عام 1979 حتى هذه اللحظة.
لقد كانت كلمات مايك بومبيو، وزير الخارجية الأميركي الجديد، والذي يُشابِه ترامب بصُورةٍ كبيرة، حاسمةً بصدد هذا الأمر، وظهر أن أميركا ستتخذ خطًا مغايرًا عن سياستها السابقة، لقد أصبح وجود إيران في هذا العالم شيءٌ غير مسموحٍ به.
وقف مايك بومبيو مُشيرًا أكثر من مرة، أن هدف الإدارة الأميركية في عهد دونالد ترامب بصدد التعامل مع الملف الإيراني أصبح مُغايرًا، وكأن أميركا ترامب تقول أنه لا سبيل للتعامل مع إيران مجددًا أو القُبول بها كدولةٍ في منتدى الدول ومجتمعها الحالي، ومن ثمَّ فلا بُد من الانتهاء سريعًا منها ومن نظامها، وهذا عبر زيادة حدة الأزمات الداخلية لتسريع إما الاستسلام الإيراني أو الانهيار السياسي.
ولكن وصل التقرير هُنا إلى نتيجةٍ شديدة الغرابة والتناقُضية، وهي ما تمثلت في نص تقرير المجلة:
“في الوقت الذي يعد فيه التحول السياسي الإيجابي لإيران هدفًا معتبرًا يستحق العمل لأجله، فإن تهور إدارة ترامب في تنفيذ هذه الاستراتيجية يمكن أن يساعد في إعادة إحياء نظام مريض”.
فكيف يتأتى هذا؟.
#هذا ما نستكمله الجزء القادم.