تختلف الروايات حول سنة مولد سعدي الشيرازي بين تاريخين. فهو في رواية قد ولد عام 595 هـ الموافق لسنة 1199 م، وفي رواية ثانية في عام 606 هـ الموافق لسنة 1209 م، وفي رواية ثالثة – وهي الرواية التي أخذت بها دائرة المعارف البريطانية – فقد ولد سعدي عام 580 هـ الموافق لسنة 1184 م.
نشأ سعدي بشيراز في كنف أسرة من رجال العلم والتصوف. وأبتُلي باليتم وهو في الثانية عشرة من عمره، فتولى جده لأمه مولانا مسعود الكازروني رعايته وتعليمه. تلقى الفتى علومه الاولية في شيراز، ثم سافر إلى بغداد ليستكمل دراسته في المدرسة النظامية التي أسسها نظام الملك وزير السلطان مَلكشاه السلجوقي.
“كان لي في النظامية أدرار، وتلقينُ وتكرارُ ليلَ نهار”
وفي بغداد، تتلمذ سعدي على يد وعّاظ ومتصوفة كبار. كان أبرزهم تأثيرًا في نفسه شيخه الصوفي المعروف شهاب الدين السهروردي والواعظ الحنبلي شمس الدين أبو الفرج الجوزي.
ترك سعدي ديوانًا ضخمًا عُرف بالكليات جمع في كل تراثه، منها أشهر آثاره وأوسعها انتشارًا: “بوستان” و”كلستان”، وقصائد عربية وفارسية، وغزليات، وأشعارًا تسمى “الطيبات” و”الخبيثات” و”البدائع” و”الخواتيم”، ونوعًا من الشعر يسمى “الملمَّعات” يتكون من أبياتٍ وشطرات فارسية يتخللها أبيات وشطرات عربية، بخلاف ست رسائل نثرية وبعض القطع الشعرية والمفردات.
كان الشيخ من المُعمّرين، وعاش حتى جاوز المائة. وتوفي في عام 690 هـ الموافق لعام 1291 م.
البستان
اشتهر هذا السِفر الشعري، الذي نقدم بعض المختارات منه اليوم، بين قراء ومُحبي الأدب الفارسي في إيران بـ “بوستان”. وهو اسم مكون من كلمتين هما: “بو” وتعني العطر أو الشَّذى أو الرائحة الزكية، و”ستان” وهي لاحقة تفيد المكانية. فيكون معنى الاسم – بحسب مقدمة د. أمين بدوي للترجمة – “مكان الرائحة أو العطر”. سِفر شعري مُحمّل بنفس حكائي فريد انتهى الشاعر سعدي الشيرازي من نظمه في عام 655 هجرية، الموافق سنة 1257 ميلادية. ويُحدد الشاعر موعد انتهاءه من الكتابة ببيتين من الشعر ضمنهما في كتابه.
“في اليوم الميمون والعام السعيد، في التاريخ المبارك بين العيدين.
كان قد زيد على الستمائة، خمس وخمسون، حين امتلأ بالدر، هذا الكنزُ الثمين”
للديوان عدة ترجمات في العربية، منها الترجمة التي أنجزها د. أمين بدوي وصدرت عن دار الشروق المصرية، والتي نقتبس منها مختاراتنا اليوم.
الأريج
من ترجمة: د. أمين بدوي
سبب نظم الكتاب
“طفت كثيرًا في أقصى العالم، وعشتُ أيامًا مع كل إنسان
وتمتعتُ بكل ناحية، وحصلتُ على سنبلة من كل بيدر
فلم أر مثل أطهار شيراز المتواضعين، فرحمة الله على هذه التربة.
تولى رجال هذه البلدة الطيبة، صرف خاطري عن الشام والروم
أحزنني أن أذهب من كل هذا البستان، صفر اليدين إلى الخلان.
فقلتُ في نفسي: يأتون بالقند (السُّكر) من مصر هدية إلى الإخوان.
إذا كانت يدي خالية من القند فعندي أقوال أحلى من القند
لا القند الذي يأكله الناس في الظاهر، بل الذي يحمله أرباب المعاني في القرطاس.”
حكاية العارف والنمر والأفعى
“يُحكى عن عظماء الدين، عارفي حقيقة عين اليقين
إن عارفًا ركب على نمر، وكان يسوق بسرعة وبيده أفعى
فقال له واحدُ: أي رجلَ الله! أرشدني إلى هذه الطريق التي سلكتها
ماذا فعلت حتى صار الوحش المفترس مطيعًا لك، وصار فص خاتم السعادة باسمك
فقال: إذا كان النمر والأفعى خاضعين لي. وإن يكن الفيل والنسر “كذلك” فلا تعجب!
أنت أيضًا لا تلو عنُقَك ولا تحد عن حكم الله، فلا يلوي عنقه ولا يحيد عن حكمك أحد.
حين يكون الحاكم مطيعًا لأمر الله، يكون الله حافظه وحارسه ومعينه.
محال حين يحبك الله أن يتركك في يد عدوك
هذا هو الطريق، فلا تحد عن الطريقة، أخطُ وأنت تنال مرادك.
النصيحة تفيد الشخص، الذي يعجبه مقال السعدي.”
النهي عن إخمال ذكر العظماء والإعتبار بسيرة الملوك السابقين
“إذا أردت أن يكون اسمك خالدًا، فلا تخف اسم وسمعة العظماء الطيبة
اقرأ بعد عهدك نفس النقش الذي رأيته بعد عهد الملوك السابقين
كان لهم نفس المراد والرغاب والدلال، وفي النهاية ذهبوا وتركوا.
واحد فاز من الدنيا بالاسم الطيب، وواحد بقيت منه السُنّة والسيرة السيئة خالدة.”
في أصول الحكم وسياسة الرعية والجند
“الملك ربُّ الأمر والرأي والجلال، لا يضيق بضجيج الناس.
الرأس الممتلئه بالغرور الفارغ من التحمل، حرام عليه تاج الملك.
جسمك قوى وعسكرك مجرْ، ولكن لا تزحف به على إقليم العدو
فإنه يفر إلى حصنٍ عالٍ، ويُصيب الأذى بلدًا لا ذنب له.
إذا مات تاجر غريب في ديارك، يكون نهبُ أمواله خساسة
لأنهم من بعد ذلك يبكونه بحرارة، ويقول أيضًا أقرباؤه وأهله معًا:
إن المسكين مات في ديار الغربة، ونهب الظالم المتاعَ الذي بقى من بعده.
ففكر وخف من ذلك الطفل اليتيم، واحذر من آه قلبه الموجَع!
ما أكثر ما تدوس وتُضيِّعُ سمعةُ سيئةٌ واحدة، سمعةُ خمسين سنة طيبة.
مات الرجل الحر من الإملاق والفاقة، ولم يملأ معدته من بطن الفقير المسكين.”
في التحذير من الغرور بالدنيا
“الدنيا يا بُني ليست مُلكا أبديا، ولا أمل في الوفاء من الدنيا
ألم يكن سرير سليمان عليه السلام يسير فوق الريح صباحَ مساءَ
وأخيرًا، ألم تر أنه ذهب مع الريح؟ طوبى لمن سار بالعلم والإنصاف!
لقد أحرز من هذا الوجد كرة السعادة، الشخص الذي كان في قيد راحة الخلق
لقد نفع ما حملوه، لا ما جمعوه وتركوه.”
عظة المجنون الذكي في موت ألب أرسلان
“حين أسلم ألب أرسلان الروح لواهب الروح، وضع ابنه تاج المُلك على رأسه
أودعوه في التربة من محل التاج والجاه، فلم يكن المكان المستهدف والمرمى، محل إقامة
وهكذا قال مجنون ذكي حين رأي ابنه راكبًا في اليوم الثاني:
مرحى لمُلك وعهد إلى انحدار! الأب ذهب في التراب والابن رجله في الركاب
هكذا تقلُّب ودوران الزمن، إنه نزق سفيه وناقض للعهد ومتقلب وغير دائم
إذا انتهى عهد قديم، ترفع دولة شابة رأسها من المهد
لا توطن قلبك على الدنيا فإنها غريبة، مثل المطرب الذي كل يوم في بيت
لا يليق العيش والعشق مع الحبيب الذي يكون له في كل صباح زوج
اعمل الخير هذا العام والقرية لك، لأن العام القادم يكون آخرٌ ربَّ القرية.”
في الاهتمام بالمعاني لا الصور
“إذا كنت عاقلًا فمل إلى المعنى، لأن المعنى “هو الذي” يبقى من الصورة “لا الصورة”
من لم يكن له علم وجود وتقوى، فليس في صورته أي معنى
ينام تحت الطين “في قبره” مستريحًا، من ينام الناس مستريحي القلب منه
اهتم بنفسك في حياتك، لأن القريب لحرصه لا يهتم بالميت
لا يحك أحد في الدنيا ظهري باهتمام، مثل طرف “رأس” أصبعي
انظر إلى حال قلوب المجروحين، فعساك تكون مجروح القلب ذات يوم!
وفرِّح قلوب العاجزين، وتذكر يوم العجز!
ألست سائلًا على أبواب الآخرين؟ فلا تطرد السائل عن بابك شكرًا لله!”
حكاية الشبلي والنملة الحائرة
“اسمع مرة سيرة الرجال اصالحين، إذا كنت حسن البخت وسائرًا برجولة
حمل الشبلي على كتفه جراب قمح من دكان بائع القمح إلى القرية
فنظر ورأى نملة في الغلة، كانت تجري حائرة في كل زاوية وناحية
فلم يستطع النوم ليلا من الرحمة والشفقة عليها، وأعادها إلى مأواها وقال:
ليست مروءة أن أشتت هذه النملة الجريحة من مكانها
اجمع قلوب المشتتين، ليكون لك استجماع من الزمن
ما أحسن ما قال الفردوسي الطاهر المولد، فلتكن الرحمة على تلك التربة الطاهرة
لا تؤذ النملة حاملة الحبة، لأن لها روحًا، والروح الحلوة جميلة
إنه لمظلم الباطن وصخري القلب، الذي يريد أن تكون نملة منقبضة القلب
لا تضرب على ظهر العاجز بيد القوم، فقد تقع يومًا عند قدميه مثل النملة
فرِّح قلوب العاجزين الضعفاء، وتذكر يوم العجز والمسكنة
لم يشفق الشمع على حال الفراشة، فانظر كيف احترق أمام الجمع
فلأفرض أن الأضعف منك كثيرون، يوجد شخص أقوى منك أيضًا على أي حال
أحسن يا بني فإن الآدمي بالإحسان، يستطيع أن يجعل الصيد والوحش في القيد
طوِّق عنق العدو بالألطاف، فإنه لا يستطيع هذا الوهق بالسيف
حين يرى العدو الكرم واللطف والجود، لا يأتي منه خبثٌ بعد ذلك في الوجود
لا تفعل الشر فإنك ترى الشر من الصديق الطيب، ولا ينبت ثمر طيب من بذر رديء
حين تغلظ وتضيِّق على الصديق، لا يريد أن يرى لك نقشًا ولونا
وإن يكن السيد حسن الخلق مع الأعداء، لا يمضي زمن طويل حتى يكونوا أصدقاء.”
حكاية الكردي العليل والطبيب الصحيح
“ذات ليلة لم ينم كردي من ألم الجنب، وكان في تلك الناحية طبيب وقال:
من هذه الطريقة التي يأكل بها ورق العنب، إني أعجب إذا أتم الليل
لأن نصل سهم التتار في الصدر، أحسن من ثقل المأكول غير الموافق
إذا وقع في الَمِعِّى التواء بلقمة، فإن كل عمر الجاهل يصير لا شيء.
وللقضاء، مات الطبيب في تلك الليلة. ومضى على هذا أربعون سنة والكردي حي!”
حكاية القروي الذي نفق حماره
“قروي نفق حماره، فجعل رأسه علمًا فوق كرم البستان
فمر عليه شيخ مجرب، وقال ضاحكًا لناطور المزرعة كذلك:
لا تظن ولا تخل يا روح أبيك أن هذا الحمار، يدفع عين السوء عن المزرعة
لأن هذا لم يكن يدفع العصا عن رأسه وأذنيه حتى مات عاجزًا جريحا
كيف يعرف أو يستطيع الطبيب إزالة الألم عن شخص، والمسكين نفسه سيموت من الألم؟”
حكاية النسر والحدأة
هكذا قال نسر أمام الحدأة: لا يوجد أحد أبعد نظرًا مني.
فقالت الحدأة: لا ينبغي التجاوز عن هذا، تعال حتى نرى ماذا ترى على أطراف الصحراء.
سمعتُ أنه على مسيرة يوم، نظر النسر من أعلى إلى أسفل
وقال كذلك: إذا كنتِ تُصدقين، رأيت حبة فوق الصحراء.
فلم يبق للحدأة صبر من التعجب، وهبطا من أعلى إلى أسفل
فلما جاء النسر قريبًا عند الحبة، انعقدت عليه حبالةٌ طويلة
ولم يدر أن من حبة طعامه تلك، يُلقي الدهر شركًا في عنقه
ما كل صدفة تكون حُبلى بالدر، وما كل مرة يصيب الشاطر الهدف
فقالت الحدأة: ما الفائدة من رؤية تلك الحبة، إذا لم يكن إبصار شرَكِ خَصمك؟
سمعتُ أنه كان يقول وعنقه في القيد: لا يفيد الحذر مع القدر
إذا رفع الأجلُ يده لسفك الدم، أغمض القضاء العين الدقيقة الرؤية
وفي البحر الذي لا يظهر ساحله، لا يُفيد غرور السبَّاح.”