قرر المخرج والسيناريست أصغر فرهادي إعادة كتابة مسرحية “موت بائع كتب متجول” للكاتب “آرثر ميللر”، تلك المسرحية التي عرضت على خشبة المسرح عام 1949 ومن بعدها صارت من أكثر المسرحيات شهرة، لدرجة أنه تم تدريسها في كثير من دول العالم باعتبارها من كلاسيكيات القرن العشرين، ليقرر “فرهادي” عام 2016 أن ينقل البائع من خشبة المسرح إلى شاشة السينما، فيصنع تحفته الخاصة التي نالت جائزة الأوسكار كأفضل فيلم أجنبي.
الحبكة
يحكي الفيلم قصة عماد ورنا وهما زوجان، وعضوا في مسرحية للهواة، يقومان خلال فترة الفيلم بتمثيل مسرحية “موت بائع متجول” لآرثر ميللر، لينتقلا للعيش داخل شقة حديثة دون أن يعلما أن مستأجرتها السابقة كانت مومس، وبعد أيام قليلة تتعرض “رنا” لاغتصاب على يد أحد زبائن المستأجرة القديمة، وهو ما يجفع زوجها لأن ينذر نفسه بالبحث عن مرتكب هذه الجريمة، ولكن “أصغر” لا يقع تحت سحر أفلام الغموض والدراما أو البوليسية، ولكنه نحى منحى لآخر، أكثر إنسانية ورقة، وهو ما جعل فيلمه يقترب من قلوب مشاهديه إلى هذا الحد.
تعد أهمية الفيلم في كونه يتناول منطلقًا يمكن أن نعده “إنسانيًا” بشكل ما، فعماد الذي يقوم بتمثيل شخصية البائع بمسرحية “آرثر ميللر” يؤدي شخصية البطل والذي يكتشف ابنه أن والده قد خان أمه فتتغير الصورة المثالية التي كان قد وضعها حول أبيه، ربما تلك هي الإشكالية الأهم التي انطلق منها الفيلم، فعماد الذي يؤدي دور هذه الشخصية، سيصدم بشخصية تشبهها في الواقع، ويصبح أمام حلين إما أن يعفو عنه، أو ينتقم منه أشد انتقام، فهل يكون تأدية دورها دافعًا لمزيد من التعاطف؟ أم أن الواقع لا يشبه بأي حال من الأحوال خشبة المسرح؟
عن الفيلم
أعاد الفيلم إيران إلى منافسات الأوسكار من جديد، وهو أمر ليس بجديد على “أصغر فرهادي” الذي قد حصل فيمله “انفصال نادر عن سيمين” على جائزة أفضل فيلم أجنبي لعام 2011، ليتكرر الأمر من جديد عام 2016 مع فيلم “البائع” ورغم أن “أصغر” لم يستطع حضور حفل الأوسكار الي شارك به فيلمه بسبب قرار رئيس الولايات المتحدة “دونالد ترامب” بعدم وجود بعض الجنسيات في أمريكا من ضمنها ذوي الجنسية الإيرانية، إلا أن ذلك لم يكن مانعًا أن يتوج الفيلم بالمركز الأول، متخطيًا عديد من الأفلام الأخرى جيدة الصنع.
الفيلم أيضًا قد حقق إيرادات كبيرة داخل دور العرض السينمائية بمختلف دول العالم، إذ حصل على 70 ألف دولار في أول أسبوع من عرضه بدور السينما الأمريكية، وأكثر من مليون و840 دولارا بفرنسا كما عرض ب300 صالة سينما بفرنسا، و23 مليونًا و500 ألف دولار في البرتغال، و648 ألف دولار في إيطاليا، وكذلك ما يقرب من 160 مليار ريال خلال شهرين من عرضه في إيران، الفيلم عرض أيضًا في كثير من دول العالم مثل عرض في سويسرا وتايوان وإسبانيا والبلطيق والمجر وألمانيا وأمريكا الشمالية والنمسا والبرازيل والتشيك وسلوفاكيا والأرجنتين والأوروغواي والباراغواي وفنلندا والنرويج.
سينما تشبه الواقع
ونرى أنه بجانب إشكالية الفيلم، فإن الفيلم تناول قصة إحدى الطبقات المتوسطة، وهي الطبقة الغالبة في العالم، فتلك الطبقة ماتزل متأثرة بكل مشاكل الحياة من السكن، والزحام، والأمان، والوظائف ذات الدخل والمستقبل البسيط، وفي نفس الوقت هناك اهتمام بالأدب والمسرح، وهو أمر يجعل كأن الفيلم مقدم لكل الفئات البسيط منها والطبقات العالية، ليصبح الفيلم قادرًا على سبر أغوار ملايين البشر، ليس هذا فقط هو ما نعتقده قد جعل للفيلم كل هذه الشعبية، بل كذلك اهتمام الفيلم بالتفاصيل النفسية، إذ استطاع نقل إحساس الزوجة قبل وبعد الصدمة التي تلقتها، منتقلًا لتحولاتها بعد تلك الصدمة، وكيف شعرت تجاه زوجها والمجتمع
بالتأكيد “أصغر” قد اعتنى بدراسة ما يحدث لمريض ما بعد الصدمة، وكيف ينسحب من المجتمع وكيف يشعر، إضافة إلى تريكزه عالزوج نفسه، وكيف تلقى هذا وكيف تغير تلك التغيرات المربكة على مدار القصة، دون أن تشعر معه بافتعال، سواء الشخصيات الأساسية أو حتى الشخصيات الأخرى، “فرهادي” هنا لم يصنع حبكة كبيرة يمكن حكايتها في كثير من السطور، ولكنه استبدل منها باستبطان نفسي عميق لجميع شخوص حكايته السىء منها والجيد، وهو ما يجعلنا نتعجب في نهاية القصة كيف استطاع أن يجعلنا نشعر بالتعاطف مع جميع أبطال الحكاية بلا استثناء، دون أن نشعر أننا قادرون على الأحكام القطعية، وهو أمر إرباكه يشبه الحياة، تلك التي لا يوجد بها أفكار قاطعة ومحددة، بعكس الأفلام التي دائمًا ما تقدم لنا كل شىء في جانب، وكأننا يمكننا أن نفرق بين الخير والشر فيهما، ولكن هنا تنمحي كل الخيوط الفاصلة بين كل القيم، وتغلفنا العاطفة في المقام الأول، التي يتحكم في خيوطها ببراعة “أصغر فرهادي”.