هناك تناحر كبير على الرجل.. صراع دموي.. الرجل يُحصر في حياته.. الرجل يتنازع عليه الكُل بعد مماته.. يقولون إنّه شاعر مُجود ينضم إلى كتيبة قد أثرت في المنجز الأدبي الإيراني، وعلى وجه الخصوص الجانب الشعري منه، بل ورفعته إلى مستوى عالِ ليُناطح به الإتجاهات الأوروبية التي ظهرت وتفشت في فترة ما قبل الحرب، وكنتيجة بعد الحرب – الحرب العالمية الثانية بكُل تأكيد-، ومن هذه التوجهات السوريالية على وجه التحديد.
قلة أخرى تُقيده. بعض نقاد عصره ظلمته ظلمًا بينًا. أشاعوا أنّه مُجرد فنان، فرد ينضمن إلى فئة الرسامين، وما تركه من شِعر ليس بالمجود القريح؛ لأنّه لم ينغمس به داخل دهاليز وحواري العقل الجمعي، ويُعبر به عن مشاكل وأوضاع المجتمع الإيراني، وكذلك لإستغلاق – وهذا رأيهم المزعم- معاني أشعاره؛ نظرًا للنزعة الصوفية التي تَلوح في شعره، والعرفانية الشديدة والتي يُمكن أن تضع يديك عليها.
قصيدته لا تُقرأ مرة، ربما ثنتان ولا بأس بثلاثة، حتى تستطيع أن تنفذ بروحك داخل روح عمله. هذا هو الشاعر والرسام الإيراني الذي أصبحت تهتز له أركان الأدب في البلاد الإيرانية سُهراب سِبِهري .
أين ومتى؟
مثلما ظهرت تلك الدعوات التي كانت تُحاول جاهدة أن تضعه داخل قالب، كان الأمر مع مولده فالبعض يقول أنّه وُلِد في قُمّ، وآخرون يتحدثون عن نشأتّه في مدينة قاشان. ولكن المؤكد أنّه وُلدِ في عام 1928 م وعاش طفولته في مدينة قاشان.
وأما هو – بنفسه – يقول عنها:
من أهل كاشان أنا
أحوالي ليست سيِّئةً
عندي كسرةُ خبزٍ , بعضُ ذكاءٍ . و مقدارُ رأسِ ابرةٍ ذوق
لي أمٌّ أفضلُ من ورَقةِ شجرةٍ
و أصدقاءُ أفضلُ من الماء الجاري . [1]
طفولة هادئة، ناعمة، بعدما انفلت منها – أي بعد الثانوية- التحق بدار المعلمين، وعمل في دائرة الثقافة في قاشان. ثم بعد ذلك ذهب لطهران ليتلقى دراسته داخل كلية الفنون الجميلة، وفي نفس الوقت كان يعمل في شركة البترول في طهران ولكنّه استقال منها فيم بعد.
معارض الرحالة
من المشهور والمعروف عن سهراب أنّه كان كثير التِرحال، لا يستقر في مكان، لا يستطيع جسده أن يرتاح في موضع معين. فاهو يُسافر إلى الهند، و يشد الرحال إلى باكستان وأفغانستان والصين ثم إلى اليابان والتي تعلم فيها فن النقش على الخشب، ولشدة تأثره بالبيئة اليابانية والصينية كان يُترجم بعض من الأشعار القديمة عن هاتين اللغتين. ثم بعد ذلك – ولفطنه من عنده – رأي أن السفر إلى أوربا شيء مُلح.
ففي ذلك الوقت، كانت أوروبا قد انفلتت من سطوة ورعب الحرب العالمية الثانية، وبدأت الأمور تستقر، وطالما استقرت فلابد أن يظهر هنا وهنالك الإتجاهات الفنية المُختلفة والأدبية كذلك. فسافر إلى لندن ومنها إلى باريس والتي فيها التحق بمدرسة الفنون الجميلة. وفي أوروبا سافر كذلك إلى إسبانيا و ميونخ وإيطاليا وهولاندا واليونان، ثم أخذ يبتعد عن القارة العجوز ليَحط بأمتعته داخل أرض الأحلام، أمريكا.
وكان هذا التنقل والترحال من أسبابه التعلم والمعرفة التي كان يكتسبها،ثم يُخزنها اللاوعي حتى يفك شفرتها فيم بعد ويُحولها إلى شعر محسوس بالروح أو لوحة تطرب لها العين، ومن أهدافه كذلك هو حضور المعارض العديدة في هذه المُدن والبلاد، معارض اللوحات التي كانت أحيانًا تكون جماعية وفي مرات عديدة وكثيرة يكون هو الملك المُتوج على حِسان هذه اللوحات، فهو مبتدعها، خالقها.
المطر
يغسل أضلاع الفُسحة
بينما ألعب مع الرمال الرطبة
وأحلم بالأسفار المنقوشة
أمتزج بُحرية الرمال
وكان قلبي يضيق [2]
أعماله
يقول الباحث داريوس شايجان الذي ترجم قصائده إلى الفرنسية: ” لا شك في أن سهراب سبهري أحد كبار الشعراء الإيرانيين المعاصرين. رسام وشاعر، لوحاته تقطر شعرًا، وقصائده ترسم حالات شعرية، للتجربتين مصدر واحد. هذا المصدر كما يبدو لنا علاقته الصوفية مع الطبيعة ومكاشفته الخصبة للإيقاع السري لكل خفقة حياة للبشر والأشياء(…) والصوفية التي يعتقدها والتي خاض تجربتها هي تلك المرتعشة في أشعار جلال الدين الرومي وفي النظرة الرؤيوية لحافظ وفي السكر المدوخ للخيام “.
لسهراب الكثير من الأعمال الشعرية واللوحات التي تركها كميراث وإرث من ورائه. حيث أن أول مجموعة شعرية له ظهرت في عام 1951 بإسم مرگ رنگ “موت اللون” . بعدها بعامين بعدما انتهي من الدراسة في كلية الفنون الجميلة وشارك في بعض المعارض بطهران أصدر ديوانه الشعري الثاني زندكَى خواب ها ” حياة النائمين” . وأصدر كذلك ” وقع خطوات الماء “ و “المسافر” و آخر كِتاب له كان ” نحن لا شيء … نحن نظرة ” .
في عام 1979 أُصِيب بمرض سرطان الدم، بسببه سافر إلى بريطانيا ليتعالج هُنالك. المرض يشتد، وطأته تتحكم به فيعود إلى طهران ليتوفى على أرض وطنه بعدها بعام في إبريل 1980 .
سهراب سبهرى هو أحد أعمدة الشعر الإيراني الحديث، قد وصلت مكانته أنّه يكفى لك أن تقول سهراب فبعدها وبشكل تلاقي ستعرفه. سهراب الذي قال في إحدى قصائده:
يوم كانت المعرفة تعيش على حافة الماء
كان الإنسان يرعى في كسل لطيف
فرِحاً بالفلسفات اللازوردية
يفكر في جهة الطيور
ويضرب نبض الشجرة
وتهزمه شروط الشقائق
وفي عمق كلامه يتخبط مفهوم الكلمة الفظة
ينام الإنسان في محتوى العناصر
ويصحو عند طلوع الخوف
ولكن أحياناً يدوي صوت النمو الغريب في مفصل اللذة الهشة
وتغدو ركبة العروج ترابية
حينها فقط كانت تظل أصابع التكامل
في هندسة الحزن الدقيقة وحيدة. [3]
_____
[1] من كتاب المسافر للشاعر – ترجمة/ غسان حمدان
[2]، [3] من ترجمة الكاتب سليم هاشم .