الطبيعة من حولنا في حالة تجديد مستمر، الكون في حالة تغيير دائم، الشجر تسقط أوراقه في الخريف لتنتعش مع هبوب نسائم الربيع، اليوم يبدأ بالشمس في المشرق تُضىء الدُنيا ثم يأتِ الليل بالقمر المنير – أي أن هذا التعاقب هو في ذاته تجديد -، الإنسان هو أحد العناصر الموجودة في الكون المترامي أطرافه، منجزات الإنسان من الممكن أن نعتبرها إحدى الروافد المتواجدة في الطبيعة، المنجزات بكل ما تحمله الكلمة من معنى، المنجز المادي في المصنع والآلة، المنجز العقلي المتمثل في الفكر واللغة والأدب، ومنها الشعر.
الشعر داخل إيران، داخل مقاهي إيران، داخل عقل شعراء إيران مر بمراحل عِدة، تقلب عليه كُثر، من بين هؤلاء واحد من المؤسسين والرواد لقصيدة التفعيلة “نيما يوشيج”. ماذا يفعل المؤسس؟ إنّه يُرسي القواعد، يلفت الأنظار، ينبه الأسماع، يجعل أقلام الصحف متلهفة على آراءه، المجلات على أشعاره، وإذا غاب المؤسس عن الساحة ماذا يحدث؟ يبرز تلاميذه، يظهر على السطح آثار من كانوا خلفه، يجددون، يحفرون أسمائهم، يلوح في الدنيا المتأثرون به، الذين يعمدون إلى تطوير الأسلوب الشعري، بل وإرساء قواعد لفن جديد مختلف عمّا تركه المؤسس، وهذا ما فعله الشاعر والصحفي والمترجم “أحمد شاملو” الذي سار أول ما سار على نهج الأستاذ، ثم تمرد عليه، ليُرسخّ لأسس الشعر الحر أو كما يوصف الشعر المنثور.
أنا بقايا اليأس والأمل “
وذكرياتي:
كنتُ أموتُ من العطش
ولم يكن أمامي ماءٌ
لأرطبَ جفاف الفم
أردتُ النور في منتصف الليل
فسطعَ نور الشمس
قلتُ لأخفيّ عيني عن الوهج.
ذكرياتي:
لا شيء إلا بقايا يأس وأمل”. [1]
داخل العاصمة طهران يُولد الشاعر الفذ في 12 ديسمبر عام 1925م، داخل المدينة الأم ينشأ الولد الصغير الذي سيترك المدرسة في السنة الأولى للثانويةِ، ربما لأنّه ضاق ذرعًا بها وبما أخذه من علوم وآداب تكبل نفسه وتمسك بعنقه لتدسها في التراب، ربما لترحال والديه الكثير وأنّ نفسه الداخلية قد ألفت هذا الترحال ورأت أنّه مكسب، كنز ثري يستفيد منه أفضل مما قد يستفيده من كلام المعلمين- المهم – أنّه استقر على الفرار من المدرسة ليبرز اسمه فيم بعد داخل الأوساط الأدبية كشاعر.
ومن الممكن أن يكون تركه ونفوره الدراسي بسبب ميوله السياسية والتي على إثرها يدخل السجن ويُعتقل وهو ابن الثامنة عشر من عمره. يخرج من السجن، يتنفس هواء الحرية، يُعتَقل والده، وفي مشهد ميلودرامي أغلب الظن أنّه قد أثر فيه تأثيرًا واضحًا، وعلمّ هذا الفتى معنى الحرية، ومعنى الموت، والمعاني الكثيرة المجردة التي يسع الإنسان للوصول إلى معرفتها، فهمها، نسج الأسئلة حولها، حيث أنّ أبوه واقف أمام فصيلة الإعدام، فرقة إطلاق النار قد جهزت الأسلحة، تنتظر الإشارة بالإطلاق، الإنتظار يطول لساعات وحياة الوالد تمر أمامه، ثم يأتِ الفرح فيُفرج عنهم ولا ينفذ حكم الإعدام، ولكن داخل نفس الفتى الشاعر الصغير قد أعدمت الكثير من المشاعر، لتحل محلها مشاعر أخرى تجعله لصيقًا بالشعب مناصرًا لضعيفه.
شاملو في يومه، وداخل شعره الذي هو صورة نابضة بالحرارة وإنعكاس مرئي مقروء عمّا فعله أثناء مشوار حياته، يُمجد الإنسان، يعلى قدره، يضعه في مكانته الحقة التي من أجلها خُلِقَ، يعارض الإستكانة البشرية التي يقع داخل مخالبها الإنسان بسبب الأنظمة الحكومية المستبدة، يهتم بالإنسان وبكل ما يمر به من أزمات تطاحنية تجعله يُتحدث لنفسه وهو سائرًا في الشارع.
لا خجل عند الرجل من تغيير آرائه وبخاصة إذا أكتشف إنّه على خطأ، ففي أثناء فترة الحرب العالمية الثانية سُجن مرة أخرى، بسبب مناصرته للألمان في حربهم ضد الحلفاء، يخرج من السجن، يتأمل الأمور السياسية من حوله، يعترف بخطأه، لينتهي به المطاف إلى أن يكون يساريًا ديمقراطيًا، من موقعه يعارض الشاه، يُهدي قصائده لأصدقائه اليساريين، لرفاق وطنه المطحونيين مثله، للإنسان الفقير المدافع عنه دائمًا.
إذا كان شاملو قد اشتهر بالشعر، عُرِف به، وترك من ورائه أكثر من 20 ديوان :
الأغاني المنسية، حديقة المرايا، مراثي التراب، إبراهيم في النار، أغاني الغربة الصغيرة، الهواء الأبيض، ولكن إبداعه لم يقتصر عند ذلك الحد بل أيضًا ترجم للعديد من الشعراء من أمثال : سان جان بروس، لوركا الإسباني وغيرهم.
كذلك لم يغفل شاملو الجانب النثري في إبداعه، وفي هذا الأمر ظهر جانب إلتصاقه بالإنسان الضعيف، وإلتفاته إلى أهمية تدوين كل ما مر به هذا الفرد في حياته، حيث قام بتأليف كتاب ضخم تحت عنوان “كتاب كوجه” أي كتاب الحارة، وفيه دوّن الأدب الشفاهي أو الثقافة الشعبية، ليحافظ على الموروث الشعبي الإيراني من الضياع.
الجُزء الصحفي لا يُمكن على الإطلاق إغفاله وتناسيه في حياة شاملو، فلقد أصدر وترأس طوال حياته العديد من المجلات، أي نعم كان مصيرها الغلق بعد أعداد، ولكن فيها وداخلها عارض سلطة القمع.
فأول ما كان مجلة الكلام الجديد عام 1948، لتُغلق بعد خمسة أعداد، بعد عامين يصدر مجلة اليومية وتُغلق هي الأخرى، يُعتقل بعدما تمت الإطاحة بحكومة محمد مصدق، فيأخره ذلك عن بعض نشاطته الأدبية والصحفية، ليعاود النشاط مرة أخرى بإصدار مجلة بارو عام 1966 لتُغلق بعد ثلاث أعداد فقط بأمر مباشر من وزير الإعلام، بعدما بثلاث أعوام يُصدر مجلة الفرح، فتُغلق بعد فترة هزيلة، عام 1979م بعد نجاح الثورة الإسلامية الإيرانية، ورياح التغيير التي اجتاحت البلاد يصدر المجلة الأسبوعية كتاب الجمعة ليكون مصيرها هي الأخرى الإغلاق بعد 36 عددِ.
القرن الواحد والعشرين يبدأ وقد أصابه الإرهاق والتعب جراء العديد من العلميات الجراحية التي أجراها، فلم تنتصف السنة الأولى إلا وهو يفيض بروحه، يتوفى في 24 يوليو لعام 2000 م ويدفن في منطقة” إمام زاده طاهر”، في مدينة كرج التابعة لمحافظة البرز الواقعة غرب طهران.
الموت يسلب حياة هذا الرجل الذي أطلقت عليه وسائل الإعلام”شاعر الحرية”، الموت يأخذ روح أحد الشعراء الذي يقول عنه النقاد أنّه أصبح ذا تأثير أكبر من يوشنج نفسه، الموت يأخذ ولكن السيرة الذاتية الأدبية والشعرية باقية له، الرجل الذي توّحد مع الكون ليحاول الوصول إلى ذاته ونفسه ليقول:
صرت ظلَّ غيمة، وخيّمتُ فوق السهول
على الطريق حطابٌ يحمل على ظهره حمل الحطب
:عابرٌ صامتٌ، كساه الغبارُ، قال في نفسه
هه! ما هي فائدة أن يكون الإنسانُ ظلَّ غيمة؟
صرت غزالاً برياً أعدو في الجبال وفي الصحراء
الأطفال في السهل يتضاحكون فرحاً
مرّ حنطورٌ قديمٌ، قال السائسُ العجوز في نفسه:
هه! ما هي فائدة أن يصبح الإنسان ظبياً برياً دون أليف في السهل البعيد؟
صرت يمامة برية أقف في أعلى البرج المهدم
الفلاح علّق ثوبه على خشبة فوق بيدره
حارس السهل تطلع إلى خارج كوخه الظليل وفرك يديه وقال في نفسه:
ما هي فائدة أن يصبح ابن آدم يمامة برية وحيدة فوق برج قديم؟
صرت سمكة بحرية أطوي المسافات من الغوطة الحزينة حتى الخليج البعيد
الطائر البحري صرخ بحرقة على الساحل المهجور
الملاح قربَ قاربه على الرمال الرطبة قال في نفسه:
ما هي فائدة أن يصبح الإنسان سمكة هائمة في البحر خرساء باردة؟
صرت غزالاً برياً أهيم في الجبال والصحارى
صرت ظل غيمة أخيّم فوق السهول
صرت حمامة برية أنشد الامتلاء من السموات
صرت سمكة بحرية أسبح في المياه العكرة
ارتديت خرقة الدراويش وقرأتُ الأوراد
صاحبت البكم بحثاً عن الأسرار
انتعلتُ سبعة أحذية حديدية وسرتُ نحو جبل قاف
طائر كان أسطورة، قرأت الأسطورة وعدتُ
اجتزت أراضي الأقاليم السبعة مترنحاً
طرقتُ باب منزل السحرة ولم يرمِش لي طرف
فتشتُ عن ذي همّة عالية في الجبل والسهل والبحر، وعبثاً بحثت،
ثم صرت سهماً واستقررت في نار الشعب [2]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] قصيدة الليالي 3- أحمد شاملو – ترجمة عبد القادر عقيل.
[2] قصيدة المصير – أحمد شاملو – ترجمة عباس دلال .