اتخذت إدارة ترامب خطًا صارمًا ضد إيران. فقد انسحبت الولايات المتحدة من الاتفاق النووي لعام 2015 بالثامن من مايو، وطالبت بوقف جميع مشتريات النفط الإيراني في شهر يونيو، وفرضت حظرًا فعليًا على صادرات النفط الإيراني، وتضغط الآن على الحلفاء للامتثال.
ورغم أن الإدارة نفت ذلك، إلّا أن الحصار مقامرة تهدف إلى التعجيل بتغيير النظام في إيران من خلال خلق ما يكفي من الألم الاقتصادي لدفع المزيد من المظاهرات المناهضة للحكومة، ويمكن لهذه الأزمة الاقتصادية والسياسية المزدوجة أن تسقط القيادة وتؤدي إلى إقامة نظام أكثر ودًا.
تعود هذه الحرب الاقتصادية المستمرة إلى مرحلة مبكرة من العلاقات بين أمريكا وإيران، فقد تم حظر النفط الذي فرضته إيران في الفترة 1951-1953، وقد سبق هذا الحظر، الانقلاب الإنجليزي-الأميركي الذي أطاح برئيس الوزراء المنتخب محمد مصدق، في أغسطس 1953 وأقام دكتاتورية تحت قيادة الشاه محمد رضا بهلوي.
وتوحي هذه السابقة بأن إدارة ترامب يجب أن تتقدم بحذر شديد كما فعلت في أوائل الخمسينيات، وقد تشجع الحرب الاقتصادية المسؤولين الأمريكيين على النظر بشكل أكثر إيجابية في تغيير النظام كخيار استراتيجي، دون النظر إلى العواقب، التي يمكن أن تعيد صياغة العلاقات الأمريكية-الإيرانية لعقود قادمة.
في عام 1951، كانت إيران واحدة من أكبر مصدري النفط في العالم، وكانت صناعة النفط مملوكة لشركة بريطانية، وهي شركة النفط الأنجلو-إيرانية (المعروفة اليوم باسم شركة بريتش بتروليوم)، التي دفعت جزية لإيران ولكنها احتفظت بمعظم أرباح النفط لنفسها.
وبلغ الغضب من هذا الظلم حد الأزمة بعد الحرب العالمية الثانية، وفي عام 1951، اجتاح مصدق السلطة وقام بتأميم صناعة النفط، زاعمًا أنها ملكية شرعية للشعب الإيراني، وردًا على ذلك، فرضت بريطانيا حظرًا نفطيًا على إيران.
وكان الحظر ناجحًا جدًا، ورفضت شركات النفط الكبرى القيام بأعمال تجارية مع مصدق، وانهار الإنتاج الإيراني، وانخفض من 660 ألف برميل يوميًا في عام 1950 إلى لا شيء تقريبًا في عام 1952، وواجهت الدولة الإيرانية الانهيار المالي بدون صادرات النفط، وكان هذا هو الهدف البريطاني، حيث أعربوا عن أملهم في ترك مصدق لمنصبه نتيجة الضغط الاقتصادي.
وكانت الولايات المتحدة أكثر ترددًا، وأيّد المسؤولون الحكوميون الحظر لكنهم قلقوا من تأثيره النهائي على إيران، فلا يمكن السماح بنجاح تأميم إيران، بسبب تأثيره الضار على شركات النفط الأمريكية العاملة في المنطقة، ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة شككت في قدرة إيران على البقاء بدون عائدات نفطية، ووفقًا لأحد التقييمات الأمريكية، فإن خسارة عائدات النفط ستؤدي إلى “تدهور تدريجي للاقتصاد”، مؤديًا في النهاية لانهياره.
وفي خضم الحرب الباردة، أعرب صناع السياسة الأمريكية عن قلقهم من أن كارثة اقتصادية في إيران ستدمر النظام السياسي للبلاد وتتركها عرضة للتسلل الشيوعي، خاصةً وأن إيران تتشارك حدودًا طويلة مع الاتحاد السوفييتي.
وقد أساء هذا التقييم فهم الوضع، فلم يكن مصدق نفسه شيوعيًا، ولم تكن منظمة إيران الشيوعية “حزب توده”، مستعدة للاستيلاء على السلطة، في حين كان النفط مصدرًا مهمًا لإيرادات الحكومة الإيرانية، كان اقتصاد البلد زراعيًا بالدرجة الأولى، وهناك أدلة تشير إلى أن سياسات “مصدق” الاقتصادية غير النفطية عملت على تحقيق الاستقرار في إيران في غياب عائدات النفط.
ومع ذلك، جادل مسؤولون داخل وكالة الاستخبارات المركزية بأن ترك مصدق للسلطة سيؤدي إلى “الإفلاس والاضطراب، وفي أسوأ الأحوال، سيطرة الشيوعية على الدولة”، وكان السبيل الوحيد “لإنقاذ الوضع” في إيران هو “طرد مصدق” وقيام ملك إيران الشاه، بإنشاء حكومة جديدة.
في نهاية المطاف، كانت سياسة الولايات المتحدة مدفوعة بتصور زائف لما يحدث في إيران والخوف مما قد يحدث، وكان التخلص من الشيوعية هو الهدف الأساسي.
وكان الحظر وعدم إنتاج النفط الإيراني، هو ما أقنع صانعي السياسة في أمريكا أن عليهم الاختيار من بين تسليم إيران إلى كارثة اقتصادية وهيمنة الشيوعية في نهاية المطاف، أو تغيير النظام، واختاروا الاختيار الأخير.
ونجحت عملية قامت بها وكالة المخابرات المركزية في الإطاحة بمصدق في 19 أغسطس 1953، وتم استبدال حكومته بنظام جديد استبدادي بقيادة الشاه، الذي عكس التأميم، واستأنف تدفق النفط، وحول إيران إلى حليف الحرب رئيسي للحرب الباردة في أمريكا.
ولكن سياسات الشاه القمعية على مدى السنوات الـ 25 التالية، ولّدت استياءً هائلاً بين الإيرانيين، الذين ألقوا باللوم على أمريكا لوضعه في السلطة، وبلغ هذا الغضب ذروته بالقيام بالثورة الإسلامية بين عامي 1978 و1979 وسقوط الشاه وأزمة الرهائن والمرارة والعداوة والشك التي ميزت العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران منذ ذلك الحين.
وتأمل إدارة ترامب اليوم في استخدام الحرب الاقتصادية لإحداث تغيير في النظام. ومرة أخرى، كما في الخمسينات من القرن الماضي عندما زعم المسؤولون الأمريكيون أن مثل هذه الإجراءات ضرورية لإنقاذ إيران من الكارثة، يزعم الرئيس ترامب أن “شعب إيران الذي طالت معاناته” لن يكون حرًا إلا إذا تم إسقاط النظام.
ولكن على الرغم من أن النظام الحاكم في إيران قمعي وفاسد، وقائم على إثراء قادتها ويسيء إدارة الموارد الطبيعية للبلاد ويتجاهل أزماتها البيئية، فإن النظام يتمتع بالمرونة، ولا توجد معارضة داخلية منظمة قوية لتحديه.
وما زال إرث انقلاب 1953 قويًا، وكثيرًا ما استشهد به مسؤولون من طهران كدليل على النفاق الأمريكي.
إن الضغط الأمريكي لتغيير النظام، بما في ذلك دعم المتظاهرين ضد النظام القمعي، سيشجع الإيرانيين فقط على توحيد الصفوف، حتى جماعة مجاهدي خلق المعارضة، والتي تحظى بتأييد كبير داخل إدارة ترامب، لا تحظى بذلك القدر من الدعم داخل إيران.
وعلاوة على ذلك، قد لا ينجح الحظر النفطي، فسيؤدي انخفاض الإمدادات الإيرانية إلى زيادة في الأسعار، وقد لا تتوافق البلدان الأخرى مع طلب الولايات المتحدة لحظر كامل، مما يقوض فعاليته.
إلا أن هذا لن يمنع إدارة ترامب من تصعيد مواجهتها مع طهران، وفرض أشد العقوبات قسوة “في التاريخ” في محاولة للإطاحة بالحكومة.
وقد تكون العواقب وخيمة، ويمكن للظروف الاقتصادية داخل إيران أن تؤجج المزيد من الاحتجاجات التي يمكن أن تقنع إدارة ترامب بممارسة المزيد من الضغط، وكما حدث في الخمسينات من القرن الماضي، يمكن أن تؤدي الظروف الاقتصادية المتفاقمة إلى إقناع صناع السياسة الأمريكيين بأن تغيير النظام أكثر حيوية وأكثر قابلية للتحقيق، مما قد يؤدي إلى عقوبات أكثر صرامة، وخطابات أقسى، وربما حتى الحرب، بينما ترتفع أسعار النفط العالمية بسبب المخاطر الجيوسياسية المتصاعدة وإغلاق الإنتاج الإيراني.
وحتى لو كانت إستراتيجية الولايات المتحدة لتغيير النظام ناجحة، فليس من الواضح على الإطلاق أي نوع من الحكومة التي ستنشأ في طهران، أو ما إذا كانت ستكون ودية تجاه الولايات المتحدة أو شرعية في نظر الإيرانيين.
ويمكن أن يعمل تغيير النظام على المدى القصير، لكن على المدى الطويل، يمكن أن يسمم الجمهور الإيراني ضد الولايات المتحدة، ويخلق اضطرابًا اقتصاديًا هائلاً داخل إيران ويزيد من عدم الاستقرار الإقليمي، ويجب على الولايات المتحدة أن تفكر طويلاً وبجدية قبل أن تشرع في هذا المسار المحفوف بالمخاطر والذي من المحتمل أن يكون كارثيًا.